ابن رجب | انقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين

ابن رجب | انقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين

ابن رجب الجبلي

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم عند كلامه عن الحديث الحادي والثلاثون:

[ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس]

وَانْقَسَمَ بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا إِلَى قِسْمَيْنِ: 

أَحَدُهُمَا: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8] [يُونُسَ: 7] ، وَهَؤُلَاءِ هَمُّهُمُ التَّمَتُّعُ بِالدُّنْيَا، وَاغْتِنَامُ لَذَّاتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] [مُحَمَّدٍ: 12] 0 وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهَا مُوجِبٌ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَيَقُولُ: كُلَّمَا كَثُرَ التَّعَلُّقُ بِهَا، تَأَلَّمَتِ النَّفْسُ بِمُفَارَقَتِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ هَذَا غَايَةَ زُهْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِدَارٍ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ مُنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ وَقَفَ مَعَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَأَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، وَصَارَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، لَهَا يَغْضَبُ، وَبِهَا يَرْضَى، وَلَهَا يُوَالِي، وَعَلَيْهَا يُعَادِي، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالزِّينَةِ وَالتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّهَا مَنْزِلُ سَفَرٍ يُتَزَوَّدُ مِنْهَا لِمَا بَعْدَهَا مِنْ دَارِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ إِيمَانًا مُجْمَلًا، فَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ مُفَصَّلًا، وَلَا ذَاقَ مَا ذَاقَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ أُنْمُوذَجُ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

وَالْمُقْتَصِدُ مِنْهُمْ أَخَذَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهِهَا الْمُبَاحَةِ، وَأَدَّى وَاجِبَاتِهَا، وَأَمْسَكَ لِنَفَسِهِ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاجِبِ، يَتَوَسَّعُ بِهِ فِي التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ تَوَسُّعِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ " بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَسَاهُ، فَخَرَجَ فَمَرَّ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَهُ: خُذْهَا مِنْ حَسَنَاتِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: خُذْهَا مِنْ طَيِّبَاتِكَ.

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي لَخَالَطْتُكُمْ فِي لِينِ عَيْشِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ قَوْمًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [الْأَحْقَافِ: 20] .

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنْ شِئْتَ اسْتَقِلَّ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَكْثِرْ مِنْهَا، فَإِنَّمَا تَأْخُذُ مِنْ كِيسِكَ.

وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ أَشْيَاءَ مِنْ فُضُولِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَبَهْجَتِهَا، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، وَادَّخَرَهُ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} [الزخرف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] [الزُّخْرُفِ: 33 - 35] .

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» ، «وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» . وَقَالَ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» .

وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَأَذُودُ أَوْلِيَائِي عَنْ

نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْعُرَّةِ، وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا لَمْ تَكْلَمْهُ الدُّنْيَا.

وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ عَنِ الدِّينَا، كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ» ، وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، تَخَافُونَ عَلَيْهِ» .

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .

وَأَمَّا السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَهُمُ الَّذِينَ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنَ الدُّنْيَا، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَسْكَنَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] [هُودٍ: 7] ، وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] [الْمُلْكِ: 2] .

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَيَهُمُّ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَهْجَةِ وَالنُّضْرَةِ مِحْنَةً، لِيَنْظُرَ مَنْ يَقِفُ مِنْهُمْ مَعَهُ، وَيَرْكَنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] ثُمَّ بَيَّنَ انْقِطَاعَهُ وَنَفَادَهُ فَقَالَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] [الْكَهْفِ: 8] ، فَلَمَّا فَهِمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدُّنْيَا، جَعَلُوا هَمَّهُمُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا لِلْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَاكْتَفَوْا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» .

وَوَصَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغُ أَحَدِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ مِنْهُمْ سَلْمَانُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةَ، وَوَصَّى ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَأَنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ.

وَأَهْلُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: 

مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ فَقَطْ، وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ الزُّهَّادِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْسِحُ لِنَفْسِهِ أَحْيَانًا فِي تَنَاوُلِ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا الْمُبَاحَةِ، لِتَقْوَى النَّفْسُ بِذَلِكَ، وَتَنْشَطَ لِلْعَمَلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالطَّعَامَ، فَأَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ، وَلَمْ يُصِبْ مِنَ الطَّعَامِ» .

قَالَ وَهْبٌ: مَكْتُوبٌ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ:

سَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يَلْقَى فِيهَا إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدِقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ، وَفَضْلَ بُلْغَةٍ وَاسْتِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ، يَعْنِي تَرْوِيحًا لَهَا.

وَمَتَى نَوَى الْمُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ.

وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ وَاسَى مِنْهَا إِخْوَانَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا لَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى يَشْتَهِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَيَأْكُلُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا، دَعَا ضَيْفًا لَهُ لِيَأْكُلَ مَعَهُ.

وَكَانَ يُذْكَرُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ فِي مَطْعَمِهِمْ: الْمُتَسَحِّرُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَطَعَامُ الضَّيْفِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ مِنْ حُبِّكَ الدُّنْيَا طَلَبُكَ مَا يُصْلِحُكَ فِيهَا، وَمِنْ زُهْدِكَ فِيهَا تَرْكُ الْحَاجَةِ يَسُدُّهَا عَنْكَ تَرْكُهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَسَرَّتْهُ، ذَهَبَ خَوْفُ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ مَا يُلْهِيكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ، فَلَيْسَ بِمَتَاعِ الْغُرُورِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: كَيْفَ لَا أُحِبُّ دُنْيَا قُدِّرَ لِي فِيهَا قُوتٌ أَكْتَسِبُ بِهَا حَيَاةً أُدْرِكُ بِهَا طَاعَةً أَنَالُ بِهَا الْآخِرَةَ.

وَسُئِلَ أَبُو صَفْوَانَ الرُّعَيْنِيُّ - وَكَانَ مِنَ الْعَارِفِينَ -:

مَا هِيَ الدُّنْيَا الَّتِي ذَمَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا؟ 

فَقَالَ: كُلُّ مَا أَصَبْتَ فِي الدُّنْيَا تُرِيدُ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَكُلُّ مَا أَصَبْتَ فِيهَا تُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، فَلَيْسَ مِنْهَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ: نِعْمَتُ الدَّارُ كَانَتِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَ قَلِيلًا، وَأَخَذَ زَادَهُ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ كَانَتْ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَيَّعَ لَيَالِيَهُ، وَكَانَ زَادُهُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ.

Report Page