آيا صوفيا والطريقة الأردوغانية

آيا صوفيا والطريقة الأردوغانية

مجلة بلاغ - العدد الرابع عشر - ذو الحجة ١٤٤١



الأستاذ: خالد شاكر


[الجمهورية التركية لم يشف غيظ قلوبها، كل ما صنعته بالإسلام، وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله، تقام فيه شعائر الله، فجعلته بيتاً للأصنام، ومثابة للوثنية، أماتت فيه التوحيد، وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آي القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان.

لم تضق بها الأرض حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع! ولكن النفوس الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم، وكأن هذه القبة على ظهورهم، وعشيت أبصارهم من نور الله، فأرادوا ليطفؤوه بأفواههم، ويمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فعطلت الصلاة في أيا صوفيا فلا تقام فيها بعد اليوم، وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله، ولا يصدع بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندبون فيها مجد الإسلام، وعظمة الخلافة، وجلالة السلطان.

وذل فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها وهم أصحابها وأهلوها، وعز فيها المشركون، وشعروا أن أيا صوفيا قد ختمت فيها صفحة الإسلام، باسم هذا الـ (أتاتورك) كما فتحت باسم (محمد الفاتح)!..

أيا صوفيا.. تعود للجبت والطاغوت، وتحمل الصور والأصنام، ويخسرها الإسلام والشرق، ليربحها الكفر والغرب؟ 

لقد أريقت حول أيا صوفيا دماء زكية، وزهقت في سبيل أيا صوفيا أرواح طاهرة، من لدن معاوية إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد الحميد.. أفراحت الدماء هدراً وذهبت النفوس ضياعاً، وعادت أيا صوفيا بعد سبع وثمانين وأربعمائة سنة وكأنما لم يذكر فيها الله، ولم يتل فيها القرآن، ولم تقم فيها الأئمة، ولم تتجاوب مآذنها بالأذان؟

لقد بنى المسلمون هذا المجد على جماجمهم، وسقوه بدمائهم، وحموه بسيوفهم، ثم وقفوه على الإسلام، أفيأتي في ذيل الزمان من يعبث بالوقف، ويهزأ بالدماء، ويلعب بالجماجم، ثم لا يردعه رادع، ولا يعظه واعظ؟

ومن هم الأتراك لولا الإسلام؟ على أي حسب يتكلمون، وبأي نسب يفخرون، وبأي ماض يعتزون، وبأي مجد يباهون؟ أبمجد رعاة البقر في تركستان، أم بمجد أرطغرل بك وقد جاء من مشرق الشمس بدوياً جافياً فقيراً لا يملك إلا أعنة ركائبه، وطنب خيامه، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، فصار أحفاده بالإسلام سادة القارات الثلاث؟ 

أفرأيت من ينطح برأسه الصخر، ويشرب بفيه البحر، ذاك هو التركي حين ينكر الإسلام، ويسعى لإيذائه. إنه لا يحطم الصخر، ولا يجفف البحر، ولكن يمشي على رأسه إلى القبر، وإن الإسلام إلا يكن بالترك يكن بغيرهم، ولكن الترك إلا يكونوا بالإسلام لا يكونوا والله بغيره أبداً].

كانت تلك بعض كلمات الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله التي رثى بها مسجد آيا صوفيا في مجلة الرسالة سنة 1935م، ثم مرت سنون وانقضى جيل ثم أوشك جيل آخر على الانقضاء حتى عاد بناء آيا صوفيا بفضل الله تعالى مسجدا مرة ثانية بعد خمس وثمانين سنة من انقطاع الصلاة فيه. فعمت الفرحة مشرق الإسلام ومغربه بهذا النصر على إلحاد أتاتورك الذي فعل بالأمة الأفاعيل.


* ولكن.. وكعادة بعض الكتاب في هذه الأزمان لم يخل الأمر من توظيف عقدي يقفز على حقائق الشريعة وتجارب الأمة وواقع المسلمين ليحاول أن يجعل هذا النصر تصحيحا للطريقة الأردوغانية في تعاطيه مع العلمانية..


ولو نظر هؤلاء لتاريخ الأمة الإسلامية لوجدوا أن الله جل وعلا يسخر من شاء وما شاء كيف شاء لما فيه نصر الإسلام والمسلمين، فتصحيح المنهج أو المسيرة ليس وقفا فقط على قيام المرء بفعل خير أو تقديم خدمة للدين؛ فالله جل وعلا نصر الإسلام بأبي بكر الصديق وخديجة بنت خويلد رضي الله عنهما، ونصره بأبي طالب بن عبد المطلب والمطعم بن عدي وهما من سادات كفار قريش، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، "وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"..


فنحن الآن لسنا في سبيل مناقشة مناهج التغيير التي انتشرت بين الحركات المتعددة، ولا مناقشة تجارب كل منهج من تلك المناهج خلال المائة سنة الماضية في أصقاع الأرض، ولا الحكم على أعيان الأشخاص، فإن الأصل في كل جماعة أنها اختارت منهجها وسارت في طريقها وخاضت من المعارك الفكرية والعسكرية ما بدا لها..، ولكننا ننوه إلى خطأ اجتزاء المشاهد وبناء الأحكام والتصورات على جزئيات غير كلية، وإلا فجل حكام الدول التي سكانها مسلمون لهم جهود في بناء المساجد، وطباعة المصاحف، وإنشاء المعاهد الشرعية، وكفالة الأئمة والخطباء، بل وكثير منهم يُضيقون في تلك البلاد على حملات التنصير وجمعيات الماسونية ودعاة الشذوذ وعبدة الشيطان والمد الشيعي..، يضاف إلى ذلك رعاية الأرامل والأيتام والفقراء، وجُلُّهم يزعم حب الدين ونصرته ويشهد صلوات في مساجد، ويدَّعون أنه لولا الضغط الخارجي والقهر الدولي لكان لهم شأن آخر في تطبيق ما يزعمون العجز عن تطبيقه من الشريعة..


إن الملاحِظ لواقع الأمة الإسلامية يرى بوضوح الفرق بين حالها اليوم وحالها قبل خمسين سنة ويشاهد مقدار الاقتراب الذي خطته المجتمعات من الإسلام بعد عهود التوحش الشديد للشيوعية والعلمانية..

- فهل ينكر أحد أن علي عبد الله صالح حارب الشيوعية في اليمن؟ 
- وهل ينكر أحد جهود دول الخليج في حرب الشيعة في مختلف دول العالم؟
- وهل ينكر أحد أن عبد الله آل سعود أقام أكبر توسعة للحرم المكي في التاريخ؟
- وهل ينكر أحد أن محمد حسني مبارك سمح بفضائيات إسلامية كان لها دور كبير في تغيير واقع الأمة؟
- وهل ينكر أحد دور باكستان في دعم طالبان التي تجاهد أمريكا؟ 
- وهل ينكر أحد أن ليبيا في عهد معمر القذافي كانت أكبر دولة في العالم بها نسبة حفاظ للقرآن الكريم؟
- وهل ينكر أحد أن رمضان قاديروف رئيس الشيشان منع كثيرا من الخمور ووقف ضد الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "لن نسمح بإهانة الرسول حتى لو كلفنا ذلك حياتنا"، وبنى المساجد، ودعم تعدد الزوجات وقال: "من يرفض تعدد الزوجات ليس مسلما"، وألغى قانون منع الحجاب في المدارس؟


* وإن المتابع لأدعياء العلم الذين يصفقون لأمثال هؤلاء الحكام كالسديس إمام الحرم المكي، ومشاري العفاسي القارئ الكويتي المعروف، وياسر برهامي.. وأمثالهم يعلم أن الشبهة التي انطلقوا منها في ذلك هي "إعذار طغاتهم في كل المخالفات" و"التصفيق لهم عندما ينجزون أمرا محمودا"، فمهما فعل عظماؤهم من جرائم اعتذروا لهم بالاستضعاف وعدم القدرة والتدرج..، فإن أحسنوا يوما عمموا إحسانهم وجعلوه الأصل، وهي نفس الطريقة التي يتعامل بها الأردوغانيون مع زعيمهم، وكلا الفريقين يُرجع الفعل الحسن من زعيمه للغيرة الدينية التي تملأ قلبه، أما الفعل الحسن من الحكام المخالفين لسيده فيُرجعه للنفاق السياسي واستغلال الدين لتحقيق مصلحة حزبية!


* إن من ينظرون للقضية الإسلامية من هذا المنظور الضيق، ويعتبرون وجود إنجاز تصحيحا للمسيرة هم في كل بلد من يهتفون باسم زعمائهم أو حلفائهم؛ فبالجزيرة يهتفون لآل سعود، وفي ليبيا يهتفون لحفتر، وفي مصر يهتفون للسيسي، وفي لبنان يهتفون للحريري، وفي الشيشان يهتفون لقاديروف، وفي المغرب يهتفون لمحمد السادس، وفي تونس يهتفون لقيس سعيد، وفي غزة يهتفون لروحاني، وفي تركيا يهتفون لأردوغان..


* أيها السائر في طريق الحق لا يحزنك مكر أعداء الأمة وكيدهم فإن الله جل وعلا محيط بهم، ولو شاء لانتصر منهم ولكنه يختبر عباده ثم يتنزل النصر بكيفيات أرادها الله جل وعلا له فيها سبحانه وتعالى الحكمة البالغة، فاعضض أخي بالنواجذ على دينك، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.



هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد الرابع عشر

Report Page