Logic

Logic

almanteqyy

باسمه تعالى

آثار القول بأصالة الماهية

الآثار المعرفية

سوف نتعرض أولاً للآثار المعرفية بناء على أصالة الماهية ثم على أصالة الوجود .

أ ـ أصالة الماهية :

بناء على تحقق الماهية المعقولة في الأعيان ، فإن الوقوف على الحقائق العقلية للأشياء العينية بالعلم الحصولي الصوري متيسر للإنسان الباحث ، ويصبح للسلوك العلمي والفلسفي قيمة كبيرة ومعتبرة على طريق التكامل الإنساني ،

والسر في ذلك أن القواعد المنطقية لاكتساب التصور والتصديق مبنية على تحقق الماهيات ، وكذلك الرياضيات التي موضوعها ماهية الكم المتصل والمنفصل والطبيعيات التي موضوعها ماهية الجسم من حيث الحركة والسكون ، فبناء على أصالة الماهية يكون الباب مفتوحاًعلى مصراعيه أمام تحليل واكتشاف الظواهر الكونية في عالم الطبيعة.

وكذلك في السلوك العلمي الفلسفي فيما وراء الطبيعة والذي موضوعه الموجود المطلق والذي مصداقه في عالم الإمكان ماهيات الأشياء من حيث هي موجودة ومتحققة في الواقع ونفس الأمر ، فيكون الطريق مفتوحاً وممهداً لاكتشاف حقائق الوجود في قوسي النـزول والصعود ، ووصول الفيلسوف إلى أقصى غايته العلمية وهي صيرورته عالماً علمياً مضاهياً للعالم العيني .

ب ـ أصالة الوجود :

بناء على اعتبارية الماهية وعدم وجود مصداق لها بالذات في الأعيان ، وأنها ظل وشبح الوجود لا حقيقته ، وإن كان لها حكاية واقعية بوجه ما وذلك بوجود منشأ انتزاعها بالعرض في الخارج ، ولكنها حكاية ضعيفة لا تحكي عن حقيقة الشيء ، لأن الوجود الأصيل ليس له حقيقة معقولة تحكي عن ذاتياته كالماهيات ، فلا جنس ولا فصل له ، فلا حد له ولا رسم .

وهذا الضعف العلمي في التصور ينعكس بدوره على التصديق العلمي أو الفلسفي المبتني عليه ، وهذا يحط بدوره من قيمة المعرفة الحصولية المكتسبة بالبحث والتحقيق ، ويفتح باب العلم الحضوري بالأشياء عن طريق المشاهدات العرفانية ، وبالتالي يصبح السلوك الصوفي العرفاني ، المبني على إشراق حقائق الأشياء على قلب السالك المرتاض ، مقدم على السلوك العلمي والفلسفي المبني على اكتساب حقائق الأشياء بالحد والبرهان عن طريق الحس والتجربة والبرهان العقلي .

هذا بالإضافة إلى انقلاب موضوعات القضايا الحملية إلى الوجود بدلاً عن الماهية ، لأنه هو الأصل في الأحكام بناء على أصالته ، وقد أدى ذلك إلى تغيير الكثير من المباني الفلسفية كما سنبين في المستقبل .

الآثار الفلسفية

لقد ألقت هذه المسألة بظلالها الواسع على جميع المسائل الفلسفية بنحو ليس له نظير .

والسر في ذلك هو انقلاب موضوعات المسائل الفلسفية من الماهية إلى الوجود ، مما اقتضى اختلاف الأحكام المتعلقة بها ، وهذا هو منشأ التجديد الكبير الذي طرأ على الفلسفة الإسلامية بفلسفة الملا صدرا ، والتي بها صارت أقرب إلى العرفان منها إلى الفلسفة العقلية البحثية ، وهو ما كان يريده الملا صدرا .

وسوف نستعرض في هذا الفصل هذه الآثار على المسائل الفلسفية ، بناء على أصالة الماهية والوجود ، وعندها سنلاحظ أن الملا صدرا قد اعتمد بشدة على أصلين أساسيين ، وهما أصالة الوجود ووحدته التشكيكية .

أولاً ـ وحدة الوجود وكثرته :

أ ـ أصالة الماهية : يتشكل لوح الواقع الخارجي من الموجودات المتباينة من الواجب الوجود إلى آخر سلسلة الوجود .

فالواجب يباين ما سواه بوجوده الخاص البحت الذي لا ماهية له ، والقائم بنفسه وما سواه من ذوات الماهيات الأصلية تتمايز إما بتمام الذات أو جزء الذات أو بأمور زائدة على الذات .

فالوجود عندهم كثير بكثرة الموجودات ، فهو مثل البستان المؤلف من الأشجار والأحجار والانهار .

ب ـ أصالة الوجود : حقيقة الوجود الأصيل واحدة ، ولكن ذو مراتب مشككة أي متفاوتة بالشدة والضعف ، يرجع ما به الإمتياز إلى ما به الاشتراك وهو معنى التشكيك الخاص عند الملا صدرا .

وهذا النحو من التشكيك في مراتب الوجود يكون علة لظهور الكثرات ولكن هذه الكثرات ترجع إلى حقيقة واحدة وأصل فارد وهو الوجود المنبسط الساري في الأشياء والمتحد معها ، وهذه هي الوحدة في عين الكثرة والتي تعد من إبداعات الملا صدرا في الفلسفة ، فلوح الواقع الخارجي عند الملا صدرا كالبحر الواحد ذي الأمواج الكثيرة ، فليس هناك إلا ماء البحر وأطواره .

ثانياً ـ الجوهر والعرض :

أ ـ أصالة الماهية :

 الجوهر والعرض ماهيتان متباينتان ، ولكن أحدهما قائمة بالأخرى ، وهما موجودان بينهما اتحاد انضمامي بمعنى عدم إمكان التمايز الوضعي بينهما ، فهما موجودان بوجود واحد .

ب ـ أصالة الوجود :

 الأعراض من لوازم وشؤون الجوهر والاتحاد حقيقي بينهما أي وجود واحد ذو مرتبتين .

ثالثاً ـ المادة والصورة :

أ ـ أصالة الماهية : هما وجودان متشخصان بينهما اتحاد انضمامي ، والمادة مبهمة من جهة التعين الصوري لا من جهة نفسها .

ب ـ أصالة الوجود : يرى الملا صدرا أن الهيولى من مراتب وجود الصورة وليست متشخصة في ذاتها ، وأن الاتحاد بينها حقيقي بمعنى أنهما موجود واحد ذو مرتبتين .

رابعا ـ الوجود الذهني :

أ ـ أصالة الماهية : الماهية محفوظة بنفسها في الوجودين الذهني والخارجي وإن اختلفت أنحاء الوجود والتشخص ، لأن الوجود عارض على الماهية الأصلية ، فتعرضها الشخصية وترتب الآثار العينية الأصيلة في الخارج ، وتعرضها الكلية في الأذهان بلا ترتب تلك الآثار .

ب ـ أصالة الوجود : يرى الملا صدرا أن الماهية ليست إلا ظل الموجود الحقيقي وأنه من الممكن أن تنتزع ماهية واحدة من وجودات كثيرة مختلفة بالشدة والضعف ، كالإنسان العقلي والمثالي والحسي والذهني ، فالوجود الذهني هو أضعف مراتب الوجود ، ولذلك فلا يترتب عليه تلك الآثار العينية الأصيلة .

خامسا- القوة والفعل :

أ ـ أصالة الماهية : المشهور بين الفلاسفة هو القول بوجود الحركة في المقولات العرضية الأربع ، وهي الكم والكيف والأين والوضع ، وأجمعوا على امتناع الحركة في مقولة الجوهر لاستلزامها عدم وجود الموضوع الثابت للحركة العرضية .

ب ـ أصالة الوجود : ذهب الملا صدرا إلى إثبات الحركة الجوهرية إلى الحركات العرضية الأربع عند جمهور الفلاسفة .

سادسا- العلة والمعلول :

أ ـ أصالة الماهية : إن ملاك الاحتياج إلى العلة هو الإمكان الماهوي والذي هو من لوازم الماهية من حيث هي لا تقتضي بذاتها الوجود أو العدم .

ب – أصالة الوجود : والمجعول عندهم هو الماهية بالجعل البسيط ، كما أن المعلول مباين بماهيته ووجوده لماهية العلة ووجودها ، والإضافة بينهما مقولية .

الحادي عشر ـ النفس :

أ ـ أصالة الماهية : النفس الناطقة الإنسانية روحانية الحدوث والبقاء ، وهي في ذاتها مجردة ، وإن كانت في فعلها مادية ، وهي تدبر البدن عن طريق قواها المباينة لها في الوجود والقائمة بها .

ب ـ أصالة الوجود : ذهب الملا صدرا بناء على أصالة الوجود ووحدته التشكيكية والحركة الجوهرية واتحاد العاقل والمعقول ، إلى أن النفس الإنسانية مادية الحدوث روحانية البقاء ، أي أنها كانت في مبدأها صورة نوعية منطبعة في مادة البدن ، ثم بدأت بالتجرد تدريجياً بالحركة الجوهرية .

وأيضاً إن للنفس وجود واحد له مراتب عقلية وخيالية وحسية متحدة معها وهذا معنى قوله أن النفس في وحدتها كل القوى .

الآثار الدينية

وتشتمل على الآثار العقائدية والفقهية

أولاً ـ الآثار الاعتقادية :

أ ـ في المبدأ :

أ ـ أصالة الماهية : قد مر في فصل الآثار الفلسفية في مسألة وحدة الوجود وكثرته أن القائلين بأصالة الماهية يثبتون كثرة الموجودات ، وأن الباري تعالى على رأس سلسلة الموجودات ومباين لها بذاته مع إحاطته القيومية بها .

ب ـ أصالة الوجود : ذهب الملا صدرا وكما أشرنا من قبل إلى وحدة حقيقة الوجود وأنه ذو مراتب متفاوتة في الشدة والضعف ، وأن أعلى وأشرف هذه المراتب هو الوجود الحق للباري تعالى ، ولكنه عاد وأثبت الوحدة الشخصية للوجود ، وأنه ليس في دار الوجود إلا الحق تعالى وما سواه تجلياته وشؤوناته .

2 ـ في المعاد :

أ ـ أصالة الماهية : المتفق عليه بين جمهور الفلاسفة قبل الملا صدرا هو المعاد الروحاني المجرد عن الجسم للنفوس الإنسانية .

فبعد الموت وانفصال الروح عن البدن تصبح عقلاً مجرداً تاماًَ ، وتصبح بالتالي كل اللذات والآلام روحانية معنوية لا جسمانية ، ولم يستطيعوا أن يقيموا برهاناً واحداً على المعاد الجسماني الذي هو ظاهر الدين والشريعة ، ولكن آمنوا به تعبداً وتسليماً .

ب ـ أصالة الوجود : أما الملا صدرا فقد استطاع من وجهة نظره إثبات المعاد الجسماني وكذلك تجسم الأعمال في يوم القيامة ، وذلك بناء على عدة أصول فلسفية اختص بها دون سائر الحكماء كأصالة الوجود ووحدته التشكيكية والحركة الجوهرية واتحاد العاقل والمعقول ، وكون حقيقة النوع بفصله الأخير وبصورته لا بمادته .

ثانياً ـ الآثار الفقهية الشرعية :

وهي مترتبة على الآثار الاعتقادية في التوحيد

أ ـ أصالة الماهية : اتفق جمهور الحكماء قبل الملا صدرا على مباينة الممكنات بذواتها الماهوية الأصيلة للباري تعالى ، وأن الوجود المعلولي خارج عن وجود العلة ، وإن كان متقوم الوجود بها كتقوم الأعراض بالجواهر على سبيل التشبيه ولذلك ذهبوا إلى كثرة الموجودات ونفوا بشدة وحدة الوجود .

وبناء على كثرة الموجود ومباينة الوجود الخالق للمخلوقات الممكنة يُعقل التكليف الشرعي المبني على وجود آمر ومأمور ، ومتكلم ومخاطب وهو ظاهر الشريعة ومقتضى التكليف الشرعي وإنزال الكتب وإرسال الرسل والأنبياء ، ومن أجل ذلك لم يتعرضوا من هذه الجهة إلى انتقاد الفقهاء لهم .

ب ـ أصالة الوجود : ذهب الملا صدرا أولاً في الجزء الأول من الأسفار إلى وحدة الوجود التشكيكية بناء على أصالة الوجود ، وهو المسمى بالوحدة في عين الكثرة ، وهنا يمكن توجيه التكليف الشرعي إلى حد ما لوجود جهة الامتياز ، وإن كانت ترجع بوجه آخر إلى جهة الاشتراك .

ولكن الملا صدرا اعاد بعد ذلك في الجزء الثاني من الأسفار لينفي أي وجود نفسي للمعلول سواء على نحو الاستقلال أو التبعية ، وجعله معنى حرفي في غيره وأنه ليس إلا من شؤون وأطوار الخالق .

وبناء على هذه التصور يستحيل التكليف الشرعي لأن الشيء لا يكلف نفسه لأن المعلول هنا ، وإن اختلف عن العلة بالاعتبار العقلي ولكنه عينها مصداقاً كقولنا أرسطو والمعلم الأول ، فالمعلم الأول هو أرسطو في الأعيان ولكن من حيث يُعلّم الناس ، فلو أمر أرسطو أحداً فقد أمر المعلم الأول ، ولو عصى أرسطو أو ظلم ، فقد عصى وظلم المعلم الأول نفسه ، فلا معنى للتكليف .

ولذلك فقد صار الملا صدرا مرمى لسهام الفقهاء وتكفيرهم إياه وإخراجهم له إلى الصحراء ، وربما لو اقتنع بمبناه الأول لكان خيراً له وأقوم .

الآثار الأخلاقية والاجتماعية

وهذه الآثار مترتبة على المنهج المعرفي والرؤية الكونية لكل طرف .

أ ـ أصالة الماهية : بناء على أن الإنسان يدرك حقائق الأشياء بعقله عن طريق الحد والبرهان ، وذلك بالتأمل في الآيات الأنفسية والآفاقية ، فإن الغاية العلمية للإنسان تصبح هي صيرورته عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني ، والغاية العملية الأخلاقية هو حصول ملكة العدالة لديه ، وهي الهيئة الاستعلائية للنفس على البدن .

ب ـ أصالة الوجود : إن مسلك الملا صدرا الأخلاقي مسلك عرفاني مبني على وحدة الوجود وأصالته ، وهو لا يكتفي فيه بالسلوك العملي التقليدي لتطهير النفس وصفائها وإعدادها للتفكر والتأمل الفلسفي كما هو مذهب جمهور الحكماء .

إنما يذهب وراء ذلك إلى ضرورة السفر إلى الحق الأول سبحانه وتعالى ، والفناء فيه بالأسفار الصوفية الأربعة المعروفة عندهم عن طريق الرياضات والمجاهدات العرفانية .

وهذا التفاوت الأخلاقي بين المذهبين مرجعه إلى الرؤية الكونية لهذا العالم وفلسفة الحياة في هذه الدنيا ، مما ينعكس بدوره على السلوك الاجتماعي للإنسان .

بيان ذلك إنه بناء على النظرة الأولى لمدرسة أصالة الماهية عند جمهور الفلاسفة و السيد الداماد في إمكان المعرفة الحقيقية والواقعية للأشياء وإمكان التأثير والتأثر فيها ، وأن الإنسان خليفة الله في الأرض وأنه يعين مصيره بإرادته الحرة واختياره مما يؤكد مسؤليته الاجتماعية تجاه الآخرين ، فيسعى للإصلاح والتغيير الاجتماعي .

أما بناء على النظرة الثانية لمدرسة الملا صدرا والتي تنظر للأشياء على أنها خيالات الحقيقة وظلالها وترجيح المسلك الصوفي على مسلك البحث العلمي ، وأن ليس للإنسان ماهية حقيقية ولا هوية استقلالية بل مجرد معنى حرفي اعتباري قائم بمبدأ الكون ، مما يفقده الشعور بالمسؤولية الاجتماعية خاصة مع اعتماده الرؤية الكونية الصوفية والتي تنظر للإنسان في هذه الحياة الدنيا ، كالطائر الذي حبس داخل قفص البدن وعليه أن يحطم هذه القضبان لكي يحلق بعد ذلك في سماء الحرية والملكوت مما يدفعه إلى الانطواء على الذات والعزلة الاجتماعية ، كما هو الحاصل لأغلب سالكي هذا الطريق .

 


Report Page