...

...


أول يوم العيد حصل معايا أقسىٰ موقف ممكن تشوفه فى الدنيا، فـ لو مُهتم تعرف حكايتي إستعيذ بالله من الشيطان لإنك دلوقتي هتشوف بشر ألعن من الشياطين.


الحكاية تبدأ فى اول العُمر وبالتحديد لما كان عندي ٦ سنين

 كُنت قاعد في الجامع لابس الجلابية البيضا اللي أمي إشتريتهالي علشان أصلي بيها العيد والناس كلها عمالة تحرك شفايفها وبتتكلم كلام أنا ماعرفوش ولا أعرف حتي بيتنطق إزاي، بس أنا كنت فاهم معناه.

 ماما علمتني إن في اليوم ده بِنِحيي شعائر ربنا في الأرض وبنكبر بـ اسمه وبنصلي علي النبي، لكن عُمري ما عرفت أنطق الكلام ده ولا حتي أسمعه.

ففضلت أحرك شفايفي زيهم وأقلدهم وخلاص، لحد ما الصلاة خِلصِت وخرجت من الجامع، ولاقيت أطفال مِن سنّي معاهم بلالين وعمالين يرموها علي بعض، فقلبي طار مِن الفرحة وقربت ناحيتهم بسرعة، وبدأت أحرك إيديا وأقولهم بـِ لُغة طيبين القلب اللي زيي:

= أنا .. عايز .. ألعب.. معاكم.

"ماعداش ثواني ولاقيتهم بيبصوا لبعض بـ استغراب، وفجأة إنفجروا مِن الضحك، وواحد فيهم عمل صوابعه علي شكل مقص، وطلع لسانه وعمل كإنه بيقُصه، وملامح وشهم بيزيد عليها علامات الفرحة والضحك."


"قد تبدو لك الأيام قاسية، ولكن الأشد قسوة مِن ذلك حينما لا تسطِع أن تُعبر عن ما بـِ داخلك، وكإنك مثل الحيوانات، تتألم وتصرُخ كثيرًا ولكن في صمت."


رجعت علي البيت جري في اليوم ده، ودخلت أوضتي وقفلت الباب علي نفسي ووقفت قُدام المِرايا وخرّجت لساني برا، وبدأت أحركُه يمين وشمال، وببُص عليه أشوف هو مقطوع مِنه حتة ولا لا ولما إفتكرت الموقف اللي لسه حاصل معايا من شوية بدأت أصرُخ بصوت عالي، صوت واثق إنه عالي جدًا لدرجه إنه لو إتسمع كان هيهز كُل حتة في قلب أي شخص عنده رحمة.

ومرة واحدة لاقيت أمي جاية بسرعة ونزلت قُدامي علي رُكبتها وبدأت تمسح في دموعي، ودار بيننا حوار باللغة اللي أنا وهي بنعرف نتواصل مع بعض بيها، وحكيتلها علي كُل حاجة، لحد ما بدأت تحرك إيديها وتقولي:

- كُل دول في يوم هيتمنوا بس يقعدوا معاك ، ربنا لما بياخد مِن حد حاجة بيديله مكانها حاجات كتير أوي، وبُكرا تفتكر كلامي، وبعد شوية لاقيتها جاية وجايبة معاها بلالين كتير أوي وفِضلِت تلعب معايا ساعتين بنفس الطريقة اللي ولاد كانوا بيلعبوا بيها مع بعض، لحد ما وجع قلبي بدأ يهدي، بس برغم كُل ده مستحيل أنسي الموقف ده لو عدا ١٠٠ سنة، بس أمي قالتلي جملة إتحفرت في عقلي وقلبي ومضمونها:

" لما تكبر مش هتكون زيهم وهتحس بقلوب كل اللي شبهك، وهتكون مصدر طاقة كبيرة أوي ليهم، فـ إياك يابني تِتفِتن بالدنيا وتقسي علي غيرك مهما الحياة إدِتك."


أنا كنت طفل ذكي جدًا، كُنت بحل المسائل الرياضية المُعقدة في ثواني، ولعبة الألغاز اللي الناس الكبيرة مابتعرفش تحِلها كُنت بخليها صعبة أكتر وبرضو بحِلها بكُل سهولة.


أمي بدأت تعملني القراءة والكتابة، وأفهم الكلمة دي معناها إيه، ولما أحب أقول حاجة لشخص مش فاهم لغة الإشارة كنت أكتبله وهو يرد عليا بالكتابة ونتواصل مع بعض بكُل سهولة، لحد ما جِه اليوم اللي الدنيا إبتدت تِضحكلي فيه.


لبست طقم جميل أوي، وخدت شنطتي وجواها الكشاكيل، ومشيت وأنا ماسك إيد أمي في الطريق لمدرسة " الفصاحة" للصُم والبُكم، في الأول كُنت خايف أدخل، بس لما لاقيت كل اللي داخلين من البوابة بيتكلموا زيي وفاهمهم فِرِحت وودعت ماما ودخلت المدرسة بسرعة.


" هتعيش وتشوف ناس قلوبهم جميلة تِشبه لقلبك بالمللي، هيخلوا حياتك حِلوة مليانة بهجة وألوان، هُما دول عوضك في الدنيا، هُما دول اللي ينفع ينطبق عليهُم لقب إنسان".


المدرسة دي كانت إبتدائي وإعدادي وثانوي، حبيتها أكتر من بيتي وكانت المكان الوحيد اللي يشبِهلي، تعدي سنين وسنين وأنا بعافر فيها وبطلع كُل سنة الأول علي المدرسة، لحد ما دخلت ثانوي وجه اليوم اللي غير حياتي، مِن صُغر سني وأنا بحب الألغاز وذكي جدًا في تعقيد المسائل وحلها وتبسيط قوانين الفيزياء مهما كانت مُعقدة.


خد نفس طويييييل، وركز أوي معايا، إنسي أي موقف تنمُّر عدا عليك وكُل شخص كان بيكسرك.

عوض ربنا بيترتبلك دلوقتي، وأكيد في يوم هيوصلك.


في وسط زحمة الفصل، وهدوء لسان كُل واحد فينا، دخل شخص كبير في السِن لخبط قلوبنا كـُلها.

حط الكُتب اللي كانت في إيده علي المكتب وبص علينا وابتسم وبدأ يعرّف نفسه.

- في يوم كُنت زيكم بالضبط، نفسي أتعلم وأنجح، نفسي أثبت للدنيا كلها إن برغم عجزي قادر أوصل، استحملت ٢٠ سنة مِن ضحك الناس عليا وأنا بتعلم، وكل كلمة كانت بتقولي مالوش لازمة اللي بتعمله، أخدت ماچستير، وبعدها دكتوراه.

ودلوقتي حابب أقولكم إني مش مُدرس ثانوي، أنا شخص متطوّع وجاي أعلمكُم فيزياء لوجه الله، وكمان بدون مقابل.


" فـ واحد صاحبنا، ماقدِرش يمسك نفسه وابتسم وقال بلغة الإشارة:

- طب أنت إزاي مش مُدرس ثانوي، وجاي تشرحلِنا فيزياء! 


" بكُل هدوء المُدرس ابتسم، ولف ناحية السبورة، وكتب عليها "فيزياء"، ولف ناحيتنا وقال:


- نسيت أعرفكم بنفسي أنا دكتور أحمد العدل، عميد كُلية علوم إعاقة جامعة الزقازيق، وطول حياتي بدرس علم الفيزياء، والنهاردة بإذن الله هبدأ معاكم أول حاجة في المنهج، وهديكم كُل أسبوع مرة، كمراجعة لـ اللي المدرسين اللي هنا بيشرحوه.


كُل صحابي إتصدموا وجه في دماغهم سؤال واحد بس، وهو إزاي بقي كدة وهو زينا مابيتكلمش ولا بيسمع!! بس أنا جه في دماغي سؤال تاني خالص.

فكّمل كلامه وقال:

- عارف إنتوا بتفكروا في إيه، بس أنا وصلت للمكانة دي بمجهودي، والبلد كرمتني وبقيت كدة، ومعايا المترجم الخاص بيا بيساعدني ويحول إشاراتي لكلام في أي مؤتمر أو اجتماع بحضره.


دكتور أحمد كان بداية أمل لكل واحد فينا، وطاقة نور شوفناها بعد ما حسينا إن الدنيا بدأت تتلخبط، وفعلًا بدأ يشرحلنا، طريقته في توصيل المعلومة كانت عبقرية جدًا، وبرغم حُبي للفيزيا، إلا إن الحُب ده وصل لمرحلة العشق بسببه، وتعدي شهور وأنا مافيش حصة ليه إلا وبحضرها وبجيب الدرجة النهائية في كُل امتحاناتُه، لحد ما في يوم لاقيتُه طالبني بـ الاسم، إني أروحله الكُلية اللي هو فيها.


ماصدقتش نفسي من الفرحة، بس كان جوايا مليون سؤال، زي مثلا هو عايزني في إيه! وإشمعنا أنا؟

المهم لبست بدلة، وروحت في المعاد اللي هو حدده، ودخلت المكتب بتاعه، وأول ما شافني وقِف، وجِه ناحيتي وسلِّم عليا


- إزيك يا محمود.

= بخير الحمد لله يا دكتور.

" بعد كدة قعدنا علي كرسيين جمب بعض وطلع ورقة آخر امتحان وشاور علي مسألة مُعينة وقال:

- كُل صحابك ماعرفوش يحلوا المسألة دي، أنت حليتها إزاي!!

" مسكت القلم وكتبت القانون الخاص بالمسألة، ولخصت القانون ده، ووريتُه طريقة الحل اللي ماكملتش دقيقة، فلاقيتُه قلع نضارتُه وقال:

- تعرف كمان إن هنا في الكُلية مافيش ولا طالب عِرف يحل المسألة دي!!!


" عيني بدأت تلمع وقولت:

= إزاي بس دي سهلة!

" فـ بص عليا بـ استغراب وقال:

- سهلة!! دي كانت أهم مسألة في امتحانات الدكتوراة بتاعتي وأخدت مني ساعة كاملة حل!!

انت إيه يابني؟!!!

" ضحكت وقُلت:

= أنا واحد بيحب الفيزيا وتعقيداتها ونفسي في يوم أوصل.

- إيه أول حاجة جت في دماغلك لما عرفت إني عميد كلية!!

" بصيتلُه بـ ابتسامة بسيطة"

= إن بدل ما تجيبلك مُترجم كان نفسي تخترع أو تعمل حاجة، تخليك تساعد نفسك بنفسك.


" الدكتور وقف مكانه وهو مصدوم وقال:

- بمعني!!

= بمعني إن لو واحد فينا كان ماشي في الشارع لوحده يعرف يتعامل ويفهم التاني بيقول إيه.

- بس ده مستحيل!!

= كُل المُمكن دلوقتي كان زمان مستحيل.


" ابتسم وحط إيده علي كتفي وقال:

- بـ اللي أنا شايفه في عينيك ده أنا واثق إنك تقدر تعمل حاجة زي دي، وفي يوم هستناك تبقي دكتور معانا هنا.


" قلبي طار من السعادة، وفي لحظة إفتكرت الموقف اللي حصل معايا زمان، لما كنت بحاول أقول للعيال ألعب معاكم ومارضيوش وإتنمروا عليا، فـ جت في دماغي فِكرة، تكاد تكون شِبه مستحيلة، بس مين فينا كان مُتخيل إنه يروح الفضاء أو يطير فوق السحاب في يوم.


وبدأت أتعلم أكتر، وأقرأ أكتر وأكتر في الفيزياء، وكمان بدأت أدرِس البرمجة، ومُخ الإنسان والخلايا العصبية وازاي العقل بيوزع الاشارات علي باقي الجسم.


ماعداش كتير وربنا كرمني ودخلت كُلية علوم إعاقة، بس ده ماكنش هدفي، وكمان بقيت مُعيد في الكلية، بس برضو ده مش هدفي.

وتعدي السنين والسنين وابقي عميد الكُلية، بس حابب أقولك إن برضو لسه ماوصلتش لهدفي.


غمّض عينيك، وتعالي نِجري بالزمن ٣٥ سنة، كُلهم ضاعوا في البحث والتعليم وتطوير الذات، حقيقي كان نفسي أمي تكون معايا وأقولها إني لسه فاكر كلامها لما قالتلي:

- " لما تكبر مش هتكون زيهم وهتحس بقلوب كل اللي شبهك، وهتكون مصدر طاقة كبيرة أوي ليهم، فـ إياك يابني تِتفِتن بالدنيا وتقسي علي غيرك مهما الحياة إدِتك."


في اليوم ده ركبت الطيارة وجاتلي تذكرة دعوة vip لمؤتمر كبير جدًا في السويد، ولابس نضارة شكلها غريب عن أي نضارة ممكن تكون عينيك شافتها، لحد ما وصلت وقعدت في الصف الأول مِن المؤتمر: 

وشخص بدأ يتكلم وانا قاعد والغريب إني فاهم كُل كلمة هو بيقولها لحد ما الصمت طغى علي المكان وقال:

والآن مع كلمة السيد الدكتور/ محمود الشرقاوي، مِن مصر منبع المواهب، والحاصل علي جائزة نوبل لهذا العام في تخصُص الفيزياء، نظرًا لجهوده الملحوظة وإختراعه نظارة بصرية تقوم بتحويل الكلام والموجات الصوتية إلي إشارات مرئية لذوي الهمم "الصُم والبُكم".

وبضغطة زِر واحدة يستطيع الشخص الطبيعي القادر علي التحدُّث أن تتحول لغة الإشارة إلي صوت يخرج من النظارة.

فيستطيع كل من الطرفين التواصل بِكُل سهولة، والغريب أن سعر الاختراع مائة دولار فقط، قد يبدو للمُعظم أنه رخيص، ولكنه كلّف هذا الرجُل عُمرًا كاملًا.


وبعد كدة واحد وقف ووزّع علي كل الحضور نضارات، ولبسوها ووقفت وطلعت علي المسرح وقُلت:

= النضارة دي بتترجم كُل لغات العالم، وبدأت أشاور وأقول عندنا آية في القُرآن ربنا بيقول فيها:

"وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

وأنا حبيت الدُنيا كلها تعرفني أنا واللي زيي، وتتعرف علينا.


ومِن مكاني ده حابب أوجه رسالة للعالم كُله وأقول:

= مش مهم أنت دلوقتي إيه، أو الناس بتقول عليك إيه، مش مهم شكلك ولا الحاجة اللي ناقصاك.

المهم إنك تحب نفسك زي ما أنت تعرف إن اختلافك مميزك عن كُل الناس ومش حاجة تعيبك أو تقلل مِن شأنك، كُل واحد فينا ناقص حاجة، ولما نوصل لمرحلة إن كتفي يكون في كتفك ساعتها بس هنكمّل بعض.

اختلافنا رحمة لينا وأهم صفة في البني آدمين.

والأهم من كل ده إن أنا واثق إن كُلكم دلوقتي سامعين.


وفجأة كل الحضور وقفوا وبدأوا يسقفوا بصوت عالي جدًا، وواحد فيهم كان مصري بدأ يقول كلام ظهر قُدامي علي النضارة وكان مضمونه :


" أنا عارف إنى مُختلِف، ودى حاجة مش بـِ إيديا إني أحِلّها.

أنا نفسي بس أشوف وأحِس فى عيونكوا نظرة أرتاحلها".



Report Page