...

...


نهايتي بدأت من ١٧ سنة، أو تِقدر تقول موت حياة قديمة لشخص يشبه ليا تمامًا، ساعتها كنت راكب قطر ورايح القاهرة شاب عنده ٢٠ سنة بيجري ورا حلمه ومرة واحدة راجل صوته عالي عدا جمبي بيقول:

- شاي شاي شاي، اللي عايز شاي.

"ناديت عليه"

= واحد شاي بعد إذنك.

- كام معلقة سكر!

= معلقة ونص.


"ولسه باخد منه الشاي لاقيت واحدة داخلة تقعد علي الكرسي اللي قدامي وبقُدرة قادر شنطتها تخبط في الكوباية وهدومي كلها تتغرق".


- أوووووووف! عنجد والله ماقصد هيك.

= ايه خلاص مابقتيش تشوفي!! مستقبلي هيضيع بسببك الله يسامحك.


"ردت عليا بصوت زعلان"


- سامحني أول مرة بركب قطار وما بعرِف اتعامل.


"وطلعت مناديل من شنطتها وعاوزة تنشف هدومي".


= لا هاتي أنا هنشفهم لنفسي تُشكري.


"وراحت قاعدة، كانت لابسة طرحة بس لافاها لفة غريبة كدة غير بتاعتنا كمصريين، تقريبًا مِن الشام أو دولة عربية تانية، عينيها سودا وطرحتها كانت بيضا، كإنها لوحة لبدر منور وسط سما سودا".


= خلاص ماتزعليش حقك عليا علشان أتعصبت عليكي، بس والله رايح مشوار مهم.

- أنت اللي حقك عليا لإني كُنت عَم أجري بسرعة، وأذيتك بدون قصد.

= لا عادي ماحصلش حاجة، ورُحت ضاحك وقايلها: "تشربي شاي"! 


"عينيها بدأت تضحك بعد ماكنت زعلانة".


- لا مش هشربه لسنتين قدام.


= أنتي مش مصرية صح؟

- لا أنا فلسطينية.

= نورتي مصر والله.

- منورة بـ أهلها الطيبين.

= علي فكرة أنا بحب فلسطين جدًا.

- يسلم قلبك.

= شكلك مابتعرفيش تتكلمي مصري.

- لا بعرف بس بغلط في شوية كلام، بس هحاول معك يعني.

= أنا ايمن.

- وأنا ريم.

= عاشت الأسامي يا ريم، جاية مصر دراسة ولا شغل؟


"بصت في الأرض"


=سؤالي ضايقك؟


"لاقيتها سِكتت شوية"


- هربانة.

= هربانة!!

-ده موضوع طويل.

= عادي أهو ندردش لحد مانوصل.


"راحت باصة من الشباك علي الطريق والقطر بيتحرك وبدأت تحكي:


- كنت في يوم خارج المنزل، سمعت صوت رصاص وقنابل، قلبي اهتز من الرهبة، جريت ناحية داري ولما وصلت، لما وصلت...


 "وبدأت تعيط"


-مالك؟


-لما وصلت ما وجدت دياري، أمي، أبي، أخي ماوجدتهم، إنفطر قلبي وكإني في الدنيا وحيدة، ساعتها سألت ربي علي فين أروح، لاقيته بيرد عليا علي لسان سيدنا يوسف: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، ومن يومها وأنا هنا.

 ما بعرِف ليه بحكيلك سامحني.


"قلبي اتقبض، بس حاولت أفضل ثابت علي قد ماقدر علشان تهدأ".


= يا الله، ربنا يرحمهم يارب، وينتقم من اللي كان السبب، والله مصر زادت نور وجمال بوجودك فيها، وهتفضل شايلاكي جوا قلبها الدافي طول عُمرك.

- تسلملي يارب.

= عايشة لوحدك يا ريم؟

- لا مع خالتي.

= طب كويس الحمد لله.


"فضلت تبص علي هدومي وتاكل في ضوافرها من التوتر"


- ليه لما الشاي وقع عليك قولتلي ضيعتي مستقبلي!

= لإني رايح مقابلة شُغل مهمة.

- مُحاسب؟

= لا لا، أنا كاتب بألف قصص وسيناريوهات أفلام وكدة، وعندي مقابلة مع مُخرج كبير علشان أعرض عليه فكرة الفيلم بتاعي.

- الله يكرمك ويوفقك.

= ربنا يخليكي يارب.


"فضلنا ساكتين حوالي ١٠ دقايق، لحد ما عدا واحد جبت منه إزازة ماية ودخلت الحمام ظبطت هدومي ورجعتلها".


- هو أنت المقابلة بتاعتك فين؟

= في مبني الإذاعة والتلفزيون.

- ممكن آجي معاك!

= أكيد طبعًا تنوريني.

- عنجد؟

= عنجد جدًا.


"فضلنا نتكلم طول الطريق ونتعرف علي بعض أكتر"


= وصلنا القاهرة أهو يا ستي، يلا بينا.

- ياااه الوقت عدا بسرعة.

= أه ما أنتي ماكنتيش زي الكتكوت المبلول، فمش حاسة بالوقت.

- أنت لسه زعلان؟

= مش أوي يعني.

- طب خد دي.

= ايه دي؟

- أنا شغالة فوتوجرافر، ودي آخر صورة التقطتها للمسجد الأقصي وأنا في القدس، أتمني تقبلها مني ياعم الزعلان.


"فرحت فرحة عمري ماحسيت بحاجة زيها، لإنها قِدرت بحاجة بسيطة تديهالي إنها ترسم الضحكة علي وشي لسنتين قدام".


= أعظم هدية من أجمل بنت فلسطينية شوفتها.


- هو أنت شُفت فلسطينيات قبل هيك؟

= كتيييييير.

- وأنا أجملهم؟

= وأنتي أجملهم.


" ساعتها شوفت نظرة رضا وجبر في عينيها، بنت بسيطة وجميلة وأقل حاجة تقدر تراضيها".


= المكان أهو يا ستي.

- طب استني بقي.


"وراحت مطلعة كاميرا من شنطتها، وكل حتة نعدي قدامها جوا المبني تصورها".


= يعني أنتي جاية معايا علشان تصوري؟

- أمال جاية معاك علشان خطيبي مثلًا.

= تصدقي إنك....

- هاخد منك الصورة.

= لا خلاص كله إلا الصورة، استنيني هنا بقي هدخل أقابل مصيري وأجيلك.


" فضلت نص ساعة جوا لحد ما المخرج جه، قعد معايا حوالي دقيقتين لإنه شخص مهم ومافيش منه أتنين علي الكوكب وبعد كدة قالي سيب فكرتك واسمك ورقم تليفونك، ساعتها عرفت إنها توزيعة وإن نصيبي لسه ماجاش".


- بتعمل ايه كل ده؟

= قاعد مستني البيه.

- وهو ماجاش؟

= لا جِه بس قعد معايا دقيقتين وسابني ومشي.

- يعني انت جايله من سفر علشان يقعد معاك دقيقتين، طب استني والله لـ أجيبلك حقك.


"وراحت سايباني ورايحة ناحية الباب وعاوزة تِدخُله، جريت وراها ومسكت ايدها".


= أنتي رايحة فين يا مجنونة أنتي؟

- ههزأه الحيوان ده.


" وفضلنا نضحك بصوت عالي لحد ما الأمن طردنا علشان عاملين إزعاج".


- عاجباك قعدتنا علي الرصيف هيك؟ هو ده كرم المصريين؟


= ما أنتي اللي ضحكتيني.

- ما أنت مابتعرفش تاخد حقك.

= يابت أنتي جريئة كدة ازاي!

- الزمان علمني ماسبش حقي، والاحتلال علمني إن العدو عامل زي الكلب، لو مارميتوش بالحجارة هيفضل ينبح.


= عندك حق والله، أنتي منين بقي يا ريم؟ أقصد قاعدة فين يعني!

- هنا في القاهرة، بس كنت بصور عروس وركبت القطر لما شوفتني.

= اه لما وقعتي عليا الشاي.

- أيوة بالضبط.

= حسبي الله.

- فيك.


= طب أنا هروح بقي يادوب ألحق القطر، اتشرفت بمعرفتك والله.

-تعالي ناخد صورة ونوثق اليوم ده.


"اتصورنا وقولتلها همشي بقي علشان ألحق القطر"


- توصل بالسلامة، وعلي العموم ده كارت فيه رقمي لو محتاج شغل تصوير، وياريت تطمنني لما توصل.

= حاضر، سلام.

- سلام.


"ريم كانت حلوة، بس مش البنت اللي أحبها يعني، أنا أصلًا ماعرفش يعني ايه حُب لإني عمري ما جربته، بس حسيت من كلامها بـ أمان كدة، وفضلت طول الطريق أفكر فيها وفي مصيرها اللي حصل غصب عنها، بس واثق إن ربنا شايلها حاجة كبيرة".


= ألو، المصورة الفلسطينية معايا؟

- بتاع الشاي اللي مستقبله ضاع بسببي.

= أنا وصلت أهو يا ستي، روحتي لخالتك ولا أتخانقتي وخدوكي علي القسم؟

- لا روحت ماتقلقش.


= كنت عاوز أقولك إنك ضيعتي مستقبلي بس هونتي عليا يوم صعب والله.

- وأنا عاوزة أقولك إنك طموح وربنا هيكرمك ومش هيخذلك.

= الله يجبر بخاطرك يا ريم.


"قفلنا المكالمة، وفضلنا حوالي شهر نتكلم كل يوم ونتعرف أكتر وأكتر علي بعض، وأول ما حسيت نفسي بدأت أميل ومتعلّق بيها، لاقيتها بتقولي".


- أيمن أوعي تحبني، أوعي بالله عليك.

= ليه بتقولي كدة؟

- حبيت أقولك وبس.

= لا ماتقلقيش مش هحبك.


"اتضايقت جدًا جدًا، طب هي ليه بتقول كدة! طب وأنا متضايق ليه! هو انا حبيتها بجد! ده أنا ماعرفهاش غير من شهر بس".


عدا أسبوع علي آخر مكالمة، لحد ما رنيت عليها تاني


= صباح الخير يا ريم.

- صباح النور.

= أنا جاي القاهرة كمان ساعتين هتكوني موجودة أشوفك؟

- فرحت أوي والله، أه هكون موجودة، جاي ليه بقي؟

= عندي معاد مع مخرج تاني وربنا يكرم.

- تمام هستناك تيجي بالسلامة.


" المرة دي اتأخرت في الطريق، ووصلت متأخر وخلصت المقابلة متأخر، وقابلتها قبل المغرب بحاجات بسيطة".


= تعرفي إنك أجمل من المرة اللي فاتت بكتير؟

- عنجد؟

= المرة اللي فاتت كنتي إنسانة عادية.

- والمرة دي؟

= ملاك.

- ما تيجي نقعد علي النيل!

= يلا بينا.


"وصلنا كان الجو بدأ يكون ليل، ومافيش في السما حاجة باينة غير القمر، ومن قدامي النيل وبنت جميلة زي القدس، عزيزة النفس زي فلسطين، فيها الجدعنة والطبع المصري، حاجة كدة مضروبة في الخلاط تطلعلك ريم".


= اتفضلي يا ريم.

- ايه ده؟

= مش انتي فوتوجرافر والهدية بتاعتك كانت صورة للقدس؟

- أه.

= أنا بقي كاتب ودي الهدية بتاعتي.


"مِسكت الورقة وبدأت تقرأ اللي فيها بصوت عالي وتقول: وليس عدلًا أن تحتل قلبًا عاش عُمرًا كفلسطين عزيزًا".


- أنا احتليت قلبًا عاش عُمرًا كفلسطين عزيزًا؟

= احتليتي كل حتة فيه.

- بس أنا قولتلك أوعي تحبني!!!!

= وحبيتك.

- بس أنا ....

= عمري ما كنت أعرف يعني ايه حُب لحد ما شوفتك.


" ورحت ماسك إيدها وإحنا قاعدين وقدامنا النيل هادي، ومرة واحدة لاقيتها حطت راسها علي كتفي وغمضت عينيها وقالت:


- دخلت مصر يارب، وبمشيئتك دلوقتي عرفت يعني ايه الأمان، وإننا جوا مصر هنكون آمنين.


= طول ما أنا عايش هفضل محسسك بـ الأمان، أنا لسه في أول حياتي بس والله طموح لأبعد الحدود وربنا هيكرمني علشانك، هحاول أعوضك عن أهل ووطن، هقف في وش المدفع لو أي كلب فكر يقرب مِنك.

نفسي أقولك كلام كتير بس وأنا في حرم جمال واحدة واخدة من القدس جمال مش قادر أتكلم.


- عارف أنا آخر مرة صليت في القدس كانت قبل ما اجي مصر علي طول، ساعتها دعيت ربنا إني ألاقي الأمان والوطن والأهل، والنهاردة ربنا استجاب لدعوتي وبكل الصبر اللي في الدنيا أنا كمان بحبك يا مصري.


"كُنا إتنين بُعاد، ولا كان علي البال يجمع بينّا سهر أو قُعاد، ولقيتني ببيع الدنيا خلاص عندي استعداد، أحبك وماخدتش يوم تفكير".


كان أجمل وأوحش يوم في حياتي، أجمل يوم لإني فعلًا حبيت بجد، وأوحش يوم لإنه كان آخر مرة أشوف فيها ريم أو أسمع صوتها.

موبايلها مرة واحدة غير متاح، استناها تكلمني وماحصلش، اليوم جاب أسبوع والأسبوع جاب شهر والشهر يعدي لحد ما وصلت سنة، وكل ده مستني ومش فاهم حصل ايه ولا أعرف عنها حاجة لحد ما عدا بالضبط ٧ سنين و٩ شهور و١٤ يوم و٧ ساعات علي آخر مرة شوفتها فيها، وصورتنا كل يوم جمبي أفضل باصصلها لحد ما أتعب من التفكير وأنام.


"إذا أردت شيئًا بـِ شِدة فأطلق سراحُه فإن عاد إليك فهو مِلكك للنهاية، وإن لم يعُد فهو لم يكُن لك مِن البداية"


دلوقتي أنا في مؤتمر صحفي كبير، كُتاب الوطن العربي كُلهم متجمعين، وكمان وزير الثقافة، والأغرب سيادة الريس من ضمن الموجودين، مصورين من كل حتة، الناس كلها مستنياني أطلع علي المسرح، كل دول جايين علشاني أنا، وواحدة ماسكة المايك وبتقول: والآن مع الكاتب والمؤلف، السيناريست الحاصل علي أوسكار أفضل فيلم في العالم لهذا العام / ....... ونادت اسمي


طلعت ع المسرح العيون كلها عليا، كُله مستنيني اقرأ السؤال بتاعه اللي كاتبهولي في ورقة، وصلت نص المسرح وقلت جملة افتتاحية، وبعد كدة قعدت وقدامي ورق كتير كل ورقة فيها سؤال لحد ما جت ورقة قدامي هزت كياني كله مكتوب فيها:

 " هتسامحني لو قولتلك إن السفارة قررت إن أنا وخالتي نرجع فلسطين تاني وخفت أعرفك لـ أكسر قلبك!".


"وقفت بسرعة ومسكت المايك وناديت بصوت عالي، بلهفة ابن بيدور علي أمه الغايبة عنه سنين، الناس استغربت من رد فعلي وبدأ يحصل دوشة"


= مين صاحب سؤال فلسطين والقدس؟؟


كررت السؤال ٣ مرات وبعد كدة لاقيت واحدة وقفت وقالت:


- أنت ليه بتحب القدس يا بتاع الشاي؟


"السؤال هز المكان كله وفجأة الناس كلها سكتت"


= علشان عزيزة زي قلب بنت قابلتها قبل كدة وحبيتها.


- لسه بتحبها.

= عدا سنين.

- بس هي بتحبك.

= وبِعدت عني؟

- غصب عني.

= استنيتها كتير!

- حاولت أجيلك أكتر.

= طب والقدس؟

- دعيتلك فيها.

= دعيتي بـ ايه؟

- علي قد ما حسستني إن ليا وطن وأهل علي قد ما يكون نجاحك بـ إيد ربنا سهل.


"رُحت جاري عليها وأخدتها في حضني وحلفت إنها ماهتخرج مِنه غير لما تواقف تتجوزني".


_________


بس يا ستي وتوتة توتة خِلصت الحدوتة نامي بقي أبوس ايدك بقالي ساعة بحكيلك.

- مش أنت بتاع حواديت يا بابا؟

= اه ياحبيبتي بتاع حواديت.

- طب يلا كمل.

= أكمل ايه؟

- القصة دي، اتجوزتها بقي ولا ماتجوزتهاش؟

= هي ماما اسمها ايه؟

-ريم.

= وريم دي منين؟

- فلسطين.

= يبقي اتجوزتها ولا متجوزتهاش؟

- وانا هعرف منين.


= بصي أنتي غبية وطالعة لمامتك وآدي دقني أهي لو حكيتلك حدوتة تانية يا قدس.


-أنا غبية يا أيمن؟

= مش أنتي أمها يا ريم؟

- أه أمها.

= خلاص تبقي غبية.


- طب يا ماما قوليلي انتي وافقتي تتجوزي بابا ولا ماوافقتيش؟


- لا ده انتي غبية زي أمك فعلًا أبوكي ماكدبش.


" صوت ضِحكنا هز المكان ومن قدامنا فلسطين عزيزة وباصة علينا من نفس الصورة اللي أخدتها منها من ١٧ سنة للقدس"


ونظرة رضا خارجة مني لرب كريم، علي صَبر سنين كانت نهايته ريم.

وافتكر لو شوفت قطر، أو واحد بيقولي شاي ؛

اسأل نفسي ١٠٠ مرة، مِن غيرها هتعيش ازاي! 


Report Page