...

...


" أول ما دخلت قاعة المُحاضرات الصوت إختفي تمامًا وكُل الطلاب اللي قُدامى بصوا عليا وعينيهم لمعِت وبدأوا يشاوروا عليا ويهمسوا للى قاعدين جمبهُم. ويقولوا :

"هو ده"

حطيت ورقة كنت ماسكها فى إيدى علي المكتب ومسكت المايك وقُلت:

= عارفين إيه أهم حاجة في الدنيا؟!

" عدا وقت طويل وماحدش رد على السؤال، ابتسمت وقُلت:

= العدل.

"الكل بص وهو مستغرب"

=أهم حاجة في الدنيا العدل.

جايز حد فيكم يقول لا مش العدل وفيه حاجات أهم بكتير، بس هقوله غلط.

لإن كل حاجة صح بنعملها في حياتنا بيكون أساسها عدل، يعني مثلا الصلاة لازم يكون فيها عدل وتديها حقها وماتكروتهاش، وكذلك الخير اللي بتعمله، واللُقمة اللي بتقسمها مع غيرك، عبادة ربنا عدل، المعاملة الحسنة وطاعة الوالدين عدل. 

إنك تحط ربنا قُدامك فى أى حاجة بتعملها ده أعظم درجات العدل.

" أخدت نفس طويل"

محاضرة النهاردة هتكون خفيفة على قلوبكم بإذن الله وهفهمكم أكتر أنا أقصد إيه بكلامى ده.

"غمضت عيني لحد ما ظهر قُدامى مشهد عدا عليه أكتر من ٤٠ سنة، بس لسه محفور فى عقلي كإنه حصل معايا من شوية"


ساعتها كنت بجرى، بجرى بكل طاقة ربنا كرمني بيها، ومرة واحدة.

= أستغفر الله العظيم يا أمي، أنتى بتعملى إيه بس.

" راحت ماسحة بؤها بسرعة وحطت إيدها ورا ضهرها، وردت بخوف:

- بعمل إيه يابني، أنا مابعملش حاجة.

= لا أنا شوفتك.

"سابتني ومِشيت لقُدام من غير ما ترُد عليا، فـ عيني دمعِت وقُلت:

= والله لو كان عُمر بن الخطاب عايش لكمل حياته زاهد عن الأكل ولا إنه يشوف واحدة كبيرة فى السن زيك بتجيب عشاها من صندوق الزبالة.

" جسمها إرتعش جامد، ووقفِت متجمدة فى مكانها، ولفت ناحيتي وهي باصة للأرض ودموعها بتنقط علي إيدها وهي بترتعش وردت بصوت ضعيف:

- عُمر مات يابني، والعدل قرّب ينتهي ويموت هو كمان.

"رُحت مقرّب منها خطوتين"

= بس ربنا هو العدل يا أمي، وطول ما ربنا موجود العدل هيفضل موجود.

" بصت في عينيا بـِ كسرة نِفس، وفِضلِت ساكتة"

= ليه بتعملى كدة؟

- الجوع.

= ماله الجوع!

- الجوع كافِر على قلب صاحبه، الجعان مابيفرقش سواء هياكل فى مطعم ولا من صندوق زبالة، فى كِلتا الحالتين هيشبع، الجوع بيموت القلب وبيعلِم الكُره والقسوة وكسرة النفس يابني، اللى باقيلي فى الدنيا مش كتير وأنا عارفة كدة، فـ ليه أمِد إيدي لحد! ليه أطلب المساعدة وربنا جمبي وشايفني؟ ما كدة كدة هييجي يوم وهشبع، بس شبعى لما أشوف ربنا هيعوضني عن جوع الدنيا.


"وغمَضِت عينيها ووشها ضِحِك"


فرحتي لما أشوفه هتعوضنى عن حُزن الدنيا، جوع قلبي هيتحول لشبع لما يرويني بحنانه وأدخُل جنتُه.

الشبع الحقيقى فى الآخرة يابني مش هنا، فطول ما أنا لسه هنا مش هتفرق أكل منين، المهم إنى ماجزعش من رحمة ربنا وأفضل حامداة على الأيام الوحشة قبل الأيام الحلوة.

"ساعتها ماكنتش عارف أعمِل إيه، فـ طلعت كل الفلوس اللى فى جيبي، ومديت إيدي ناحيتها:

= إتفضلى يا حاجة.

" بصت لإيدي، وراحت باصة عليا وهي زعلانة"

- يابني أنا لسه قايلالك إن المساعدة الحقيقة مِن ربنا مش من عبد، فسيبني أكمل باقى حياتى عزيزة النفس لحد ما أقابله، وأقوله إنى استحملت ومستنية عوضك يا رحيم.


= بس اللى بيحصل معاكى ده مش عدل!!

- ماتقلقش عوض الصبر هينسيني كل الظُلم اللي عدا عليا ده.


"ودى كانت أول وآخر مرة أشوف فيها الست دى، بس فى اليوم ده إتعلمت درس كويس أوى، وهو إنى من اللحظة دي ولحد آخر يوم فى عُمري مستحيل أظلِم، ولا هسمح إني أسكت عن الحق، وشغفي إتحول من إني أكون دكتور، لحلم جديد وهو إني أدخل كلية حقوق وأجيب حق أى حد مظلوم زى الست دى".


واللي يحط حلمه قدامه ويكون خالص تمامًا لوجِه الله، ربنا بيراضيه وبيوريه جمال المعجزات فى أبهىٰ صورها.


عدت الأيام بسرعة ودخلت كلية حقوق وكل يوم صورة الست دي مابتفارقش خيالي ثانية، وكل يوم بيزيد شغفي عن التاني، ومجهودي فى المذاكرة بيزيد أضعاف، وكان عوض ربنا ليا إني إتخرجت من كلية حقوق بتقدير عام امتياز.


وماسكتش علي كدة وبس، بدأت أحضّر دراسات عُليا كمان وقدمت ورقي علشان أكمل الطريق الطويل اللى بدأته وأكون وكيل نيابة.


لحد مافي يوم....

لاقيت عمى أشرف الراجل الطيب اللى شغال فى بوفية المحكمة جاى عليا بيبتسم وجايبلي فِنجان قهوة.


- صباح الخير يا مستشار.

"ابتسمت وقُلت:

= يا راجل يا طيب قولتلك ١٠٠ مرة لما نكون لوحدنا قولى يابني من غير أى ألقاب ولا أنت بقي مستعر مني!!

"رد وهو مخضوض"

- لا طبعًا يا بية ده أنت تشرف الدنيا بحالها بس...

= بس إيه بقي.

"بص للأرض"

- العين على الحاجب ماتِعلاش يا باشا.

"وقفت بسرعة وقربت مِنُه وبوست راسه"

= أنت تشرف الدنيا كلها والله، وبعدين عين على حاجب ايه بس، ده انا أعرفك من يوم ما كنت لسه طالب فى الجامعة وباجى هنا أتدرّب مع مُحاميين.

- بس ده كان زمان، حضرتك دلوقتي وكيل نيابة يا سيادة المستشار.


"بصيت في عينيه بحنان"


= بس أنا لسه "كريم" الواد اللى كان بيجري ورا حلمه وكان بيقعد معاك ويحكيلك على كل حاجة وهو بيشرب عندك القهوة، أنا إبنك ياعم أشرف زي ما كنت بتقولي أنت نسيت ولا إيه؟


- لا يابني مستحيل أنسي.

" يلا أجري بقي شوف شُغلك، أنت هتصاحبني ولا إيه".


" بصلي بـِ استغراب"

- بس أنت لسه قايلي ....

"قاطعت كلامه"

= والله بحبك، وبحب أهزر معاك.


" ورُحت بايس راسه تاني، فـ لاقيتُه ابتسم ومشي بعيد عني خطوتين.

وفجأة لاقيته وقف مكانه شوية وراح راجع تاني وهو مُتردد"

- كنت عاوز أكلمك فى موضوع كدة.

"لاقيت تعابير وشه متغيرة"

= خير ياعم أشرف! حصلك مُشكلة ولا إيه؟

- لا يابني، بس فيه راجل كبير فى السن عنده إعاقة فى رِجلُه وبييجي هنا على كرسى مُتحرك كان رافع قضية علشان ياخد معاش يصرف بيه علي نفسه هو وعيالُه وبقاله سنتين بيجرى فى المحاكم ولحد دلوقتي لسه ماكسبهاش.


"فجأة افتكرت الست العزيزة اللى قابلتها صُدفة زمان، فوقفت بـِ لهفة وقلب مقبوض وقُلت:

= هو فين!!


" فـَ لاقيته بيديني جواب وبيقول:

- وصاني أدي الجواب ده للشخص الصح، ومالقتش حد هيقدر يساعده غيرك يابني.


" أخدت الجواب مِنه، وأول ما مِشى قعدت وفردت ضهري على الكُرسي وبدأت اقرأ الرسالة اللي جواه:


" العدل، أنا مابطلبش غير العدل، ومش عايز أكتر من حقي كـ بنى آدم، أنا بقالي سنتين بجرى فى المحاكم وأنا لا حِمل مرمطة ولا مصاريف.

أنا عندي إعاقة وضمور فى رجلى وعاجز تمامًا عن الحركة، فاتح كُشك صغير على قدي ببيع فيه ويادوب بقدر أجيب أكل يكفيني أنا ومراتي، لا عندي عيل ولا قريب يقف جمبي، سندى الوحيد فى الدنيا هو ربنا ومراتي، ولما مراتي جت تِعبِت بقيت عاجز عن كل حاجة، فلوس الكشك كلها بقت تروح لعلاجها وكمان بقيت مديون لطوب الأرض.

بالله عليك يابني لو جوابي وقع بين إيديك، أجبر بخاطر عجوز الزمن فرمُه، وأقف جمبي.

العدل بالله عليك، مابطلُبش مِنك غير عدل ربنا".


"عيني دمعت وبصيت بسرعة فى ضهر الورقة، لاقيت العنوان بتاعه، ومن غير تفكير نزلت ركبت عربيتي، وروحت للعنوان اللى مكتوب.

وأول ما وصلت....

ظهر قدامي مشهد مابشفوش غير فى السينما.

 راجل عجوز قاعد على كرسى مُتحرك قديم وخربان، مليان صدأ وتكسير، باصص للأرض، هدومة مقطّعة والعُمر خلى قلبه عجوز قبل ما يأثر على ملامح وشه، قاعد قدام كُشك صغير جدًا مافيهوش غير كام كرتونة شيبسي وعلبتين بسكوت.


"نزلت من العربية وفضلت أقرّب مِنُه لحد ما وقفت قُدامه".

= إزيك ياعم طاهر.

" رد وهو باصص للأرض ومهزوز".

- والله يابني عارف إنى مقصر بس غصب عنى، اصبر عليا شوية وربنا هيفرجها.

= مقصر فى إيه؟!

- مش أنت مُحصل الكهربا الجديد يابني! والله ما معايا فلوس دلوقتي حقك عليا إنك بتيجي كل مرة المشوار ده على الفاضى.


"عيني دمعِت وشوفت الظلم الحقيقى اللى الراجل ده بيعانى مِنُه".


= لا أنا مش محصل الكهربا يا حاج.


"رفع راسه لفوق، وفضل يركز فى تفاصيل البدلة اللى أنا لابسها".


- لا مؤاخذة يا بيه، ماشوفتش البدلة والله، أمال أنت مين!


"مديت الجواب اللى فى إيدي ناحيتُه"


= أنا اللى الجواب وقع بين إيده وجِه علشان يجبُر بخاطر عجوز الزمن فرمُه، ويديه عدل ربنا اللى هو بيتمناه.


وفجأة..

 لاقيت عينيه لمعت وبدأ يتحرك بسرعة بالكرسى وهو باصص للسما وبيصرخ.

- ااااه.

ياااارب، عَدلَك جِه فى أكتر فترة أنا مظلوم فيها يارب، وبدأ يهز الكرسى جامد وهو بيقول كلام مش مفهوم، لحد ما وقع مِن عليه.


فى اللحظة دي جريت بسرعة ووطيت برُكبى علي الأرض وأخدتُه فى حضنى وفضلت أطبطب عليه.


= أنا جمبك يا والدى، والله لحقك ييجى وتعيش حياة كريمة.


"بصلى وعينيه ماليها الدموع وقال:

- وهو ده عدل ربنا يابنى، هو ده اللى عاش عُمر بن الخطاب حياته كلها بيطبقه فى الأرض.

هو ده مبدأ الحياة، هو ده سر المُلك وأساسُه، والله والله والله يابني لييجي عليك يوم وتشوف نتيجة عدلك دى والناس تمشي تتباهى بيك وتشاور عليك وتقول:

" هو ده".


وفجأة طالب فى المُدرج قال بصوت عالى:

- أنا بجد مش مصدق إن حضرتك واقف قُدامنا وحضرتك اللى بتحكي قصتك بنفسك، أنا طول عمري اشوفها على النت وكنت مُنبهر بيها، ما بالك بقى لما أسمعها من البطل نفسه!!

ده حتى إحنا أول ما شوفناك شاورنا عليك وقولنا:

"هو ده" زي ما الراجل العجوز ده قالك بالضبط.


"وفجأة المُدرج كله صقّف بصوت عالي، لدرجة إني حسيت إن الأرض بتتهز"

ابتسمت وبدأت أكمِّل كلامى.


بعد ما ساعدت الراجل ده قررت إني أعمل جمعية خيرية يكون مبدأها الأساسى العدل، وفكرة الجمعية دي إن الجوع يتلغى تمامًا من مصر، مانشوفش حد عاطل، أو حد بيمد إيده، كل الناس تكون شبعانة، وكل الناس تكون نايمة في بيوتها راضية وبتحمد ربنا، صحيح مش كل الناس هتتساوي فى المستوي الاجتماعي أو كلهم هيكونوا أغنياء، بس كفاية إنهم هيكونوا مستورين ومعاهم علاجهم ولقمة ياكلوها".


وبدأت أنفذ الفكرة وأنشرها بكل طاقتى وضحيت علشانها بجزء كبير أوي مِن عُمري، ولاقيت إقبال شديد جدًا عليها.

فكل شخص عنده ثروة كبيرة جدا كان بيدفع مبلغ مُحترم، وبدأنا نبني مصانع، وبيوت، نستصلح أراضي ونزرعها، وبعزيمتنا قِدِرنا نِشُق الصحرا وحولناها لجنة خضرا، كل الناس اشتغلت، كل الناس بقت مستورة، ده حتة القطط والكلاب اللي فى الشارع، بقوا بيلاقوا تحت كل بيت أكل يشبعهم، وكوبايات فيها ماية.

والفكرة ماوقفتش على مصر وبس، دة إنتشرت فى وطننا العربي كله.


وفجأة وفى غمضة عيني.

عدا كتير من السنين

ولاقيت نفسي لابس بدلة وواقف رافع رأسي لفوق، المكان هادى جدًا وكلهم مستنيني أتكلِم، أهم ناس فى الدولة موجودين، والمصورين فى كل مكان بيسجلوا صوري فى كتاب التاريخ، وفجأة أخدت نفس طويل وقدام مني سنين عُمري كلها اللى فاتت بتتعاد على هيئة ذكريات.

ومرة واحدة صوت واحد هز المكان وهو بيقول:

- والآن مع كلمة السيد المستشار/ كريم عادل الأسيوطي وزير العدل.

 "ابتسمت ابتسامة بسيطة ومسكت المايك، وقدام منِّي رئيس الجمهورية وقُلت:

 = أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا علي النظام الجمهوري وأن أحترم الدستور والقانون وأن أرعي مصالح الشعب رعاية كاملة وأنا أحافظ علي استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه.


وروحت ماسك الورقة اللي قدامي على المكتب وبصيت للطلاب وقُلت:

= يبقى إيه أهم مبدأ وحاجة فى الدنيا!

"كلهم فى نفس واحد قالوا بصوت هز الكون:

- العدل، يا سيادة وزير العدل.


وروحت ماسك الورقة اللى قدامى على المكتب ولازقها على السبورة.

وبعد ما خلصت بصيت ناحيتهُم وقُلت:


= أهلًا بيكم فى وطن من غير جوع، وطن من غير فقر، وطن دافى وهادى، أهلًا بيكم فى كلية الحقوق.


وفي وسط ما هما واقفين مُنبهرين وبيسقفوا، بصيت للصورة وكان مرسوم فيها ميزان، ومكتوب عليها بخط كبير:

"العدل أساس المُلك".

 فـ قُلت بصوت عالى:

= لقد مات عُمر، ولكن الله هو العدل، والعدل حى لا يموت.

Report Page